( 5 ) بيـن أهل السنة والأشاعـرة
هناك لبس كبير يقع فيه بعض الناس قديماً وحديثاً ، ذلكم هو دعوى الأشاعرة بأنهم أهل السنة ، ووصفهم بذلك من غيرهم - أحياناً - وهذه دعوى عريضة فيها الكثير من الإيهام والخلط ، وبيان هذا - على سبيل التفصيل - يحتاج إلى بحث طويل ، لكني سأحاول بيان ما أعرفه حيال ذلك بإيجاز بالغ على النحو التالي :
أولاً : أن أهل السنة والجماعة : سُموا بذلك لأنهم هم الذين على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم الجماعة الذين ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وعليه ، فأهل السنة : الصحابة والتابعون ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين ، ولم يبتدع ولم يغيّر . ومن غـيّر أو بدل أو أحدث في الدين ما ليس منه وما لم يكونوا عليه في الاعتقاد والسنة فليس منهم فيما غـيّر أو بدّل .
ثانياً : أما الأشاعـرة : فإنهم فرقة كلامية طارئة ، نشأت بعد القرون الفاضلة ، فهي تنتسب إلى الإمام أبي الحسن علي بن اسماعـيل الأشعري المتوفى سنة (324هـ) رحمه الله - وكان معتزلياً ، ثم تحول عن المعتزلة عام ( 300 هـ ) تقريباً ، وصار يرد عليهم بأساليبهم الكلامية من جانب ، وبنصوص الكتاب والسنـّة من جانب آخر ، وبهذا وقف للمعتزلة وتصدى لهم ، هو ومن نهج منهجه حتى أفحمهم ، وهذا عمل جليل يُحمد عليه .
* وفي هذا الجو نشأ مذهب عقدي تلفيقي مخضرم ، لا هو سنـّي خالص ، ولا كلامي عقلاني خالص ، حتى هدأت العاصفة وانجلى غبار المعركة ضد المعتزلة ، وقد أبلى فيها الإمام أبو الحسن الأشعري بلاءاً حسناً ، وخرج منتصراً على المعتزلة والجهمية ، ومن سلك سبيلهم . وهنا استبصر الأشعري الحق وعرف أنه إنما انتصر بتعويله على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونصره للسنة وأهلها ، ووقفه مع أئمة السلف الآخرين .
ثم تراجع عن مقولاته في الصفات وغيرها التي سلك فيها مسلك التأويل والتعويل على
العقل ، والكلام في أمور الغيب والصفات والقدر فقرر أن يلحق بركب أهل السنة والجماعة ، فأبان عن ذلك في كتابه " الإبانة " ، ووفقه الله للتخلص من التلفيق العقديّ فقال :
" ... وقولنا الذي نقول به ، وديانتنا التي ندين بها : التمسك بكتاب ربنا عز وجل ، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وما روي عن الصحابة والتابعين ، وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون ، بما كان يقول به أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون ... " .
لكن مذهبه الثاني : النقلة من الاعتزال إلى طريقة ابن كلاّب الكلامية بقي مذهباً يُحتذى إلى اليوم ، لأنه يشبع رغبات الفلاسفة والمتكلمين وأهل التأويل .
فالأشاعرة تنتسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري قبل عودته إلى أهل السنة . وبعد فراره من الاعتزال ، وبالرغم من أنه تخلى عن هذا المذهب ، وكتب خلافه في " الإبانة " والمقالات ، إلا أن الأشاعرة لا يزالون يُحمّـلونه تبعته .
هذاعن نشأ مذهبهم ، فالأشاعرة مذهب طارئ ملفق بين أهل السنة وأهل الكلام ، لذلك صاروا أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة .
ومن جانب آخر فالأشعرية مرت بأطوار تاريخية ، في كل طور تزداد الشقة بينهم وبين أهل السنة ، لا سيما ما أدخل فيها زعماؤهم اللاحقون تلك الأسس والمعتقدات الدخيلة من الفلسفة ، والتصوف ، والمنطق ، والكلام ، والجدل ، حتى صارت عقيدة الأشاعرة مزيجاً من تلك الأخلاط .
ومن أبرز أولئـك : الباقلاني ، المتوفى سنة (403 هـ) ، والقشيري ، المتوفى سنة (465 هـ) ، وأبو المعالي الجويني ، المتوفى سنة (478 هـ) ، وابن العربي ، المتوفى سنة ( 543 هـ) ، والغزالي ، المتوفى سنة ( 505 هـ ) ، والفخر ، الرازي ، المتوفى
سنة (606 هـ) ، والآمدي ، المتوفى سنة (682 هـ) ، ونحوهم ، غفر الله لنا ولهم .
فأصبحت الأشاعرة اليوم مزيجاً من المشارب والمعتقدات بين أهل السنة والفلسفة والتصوف وعلم الكلام ، لذلك نجدهم أكثر من ينتسبون للسنة وقعاً في المخالفات العقيدة والعبادية ( أي بدع العقائد والعبادات ) وهذا بخلاف أهل السنة في كل زمان . كما نجد أن كثيراً من الأشاعرة ( حالياً ) منضوون تحت الطرق الصوفية البدعية ، وتكثر فيهم بدع القبور والتبرك البدعي بالأشخاص والأشياء ، وبدع العبادات والأذكار والموالد
ونحوها ، وهذه البدع هي التي تميّزهم - حالياً - عن أهل السنة بوضوح .
فمن خلال الواقع اليوم ، يندر أن ترى أحداً من الأشاعرة إلا ولديه شيئ من البدع ، أو الميل لذلك ، أو التساهل وعدم الاكتراث بهذه المسالة الخطيرة ، بينما العكس فيمن ينتسبون - حقاً - لأهل السنة ، فإنه يندر أن تجد فيهم من يتعلق بشئ من البدع ، إلا عن جهل ، وهذا قليل جداً بحمد الله .
لذا يطلق الأشاعرة المعاصرون - تبعاً للرافضة وسائر الطوائف غير السنة - على أهل السنة في سائر بلاد المسلمين اليوم ( وهابية ) ، نسبة إلى الداعي المصلح محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - ، كما أنهم قديماً كانوا يطلقون على أهل السنة ( الحنابلة ) نسبة لإمام السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله - وما علموا أن نبذهم باسم هذين الإمامين - أحمد بن حنبل ومحمد بن عبدالوهاب- تزكية لهم وهو شرف وشهادة لهم بأنهم مقتدون بأئمة الهدى .
وبالجملة : فالأشاعرة يوافـقون أهل السنة في أمور من العـقيدة ، ويخالفونهم في أمورأخرى ، فهم فيما يوافـقون أهل السنة فيه يجوز أن نطلق عليهم في هذا الأمرأهل سنة ، من حيث اتباعهم للسنة في ذلك الأمر ، لكنهم في الجملة حيث خالفوا أهل السنة في أصول أخرى ليست قليلة ; ليسوا هم أهل السنة عند الإطلاق والعموم ، وهذا الأمر قد يلتبس على كثير من الناس اليوم لقلة اطلاعهم على كلام أهل العلم في ذلك .
( 6 ) من أهم المسائل
التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة
كأني بالقارئ يطالبني بالإشارة إلى ما خالف فيه الأشاعرة أهل السنة ، من أصول ومعتقدات ، فأقول - بإيجاز - وبالله التوفيق :
1 - من أخطر ما خالف به الأشاعرة أهل السنة خوضهم في صفات الله - عز وجل - بالتأويل الذي نهى عنه السلف ، خاصة الصفات الخبرية التي وصف الله بها نفسه ، أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثل صفات : اليد ، والعين ، والنفس ، والبغض ، ونحوها من الصفات الخبرية التي ذكرها الله - تعالى - في كتابه ، أو صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم لم يُؤمنوا بها كما جاءت ، وكما فعل السلف ، فـقد أولوها وصرفوا ألفاظها إلى غير ظاهرها ، هروباًُ من شبهة التجسيم والتمثيل، وغـفلوا عما يترتب على فعلهم هذا من تحريفهم لكلام الله ، وتعطيل لمعانيه ، والقول على الله بغير علم ، وغير ذلك من المستـلزمات التي يقتضيها التأويل وتنافي التسليم لله - تعالى - ، إذ كيف يليق أن يقول الله عن نفسه ، ويقول عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بصفات لا تليق ، أو تقتضي التشبيه والتجسيم ، ثم لا يكتشف هذه المسألة إلا المتكلمون بعد القرن الثالث الهجري ؟!
ثم كيف فات هذا الفهم على الصحابة والتابعين وسلف الأمة ثم يدركه المتكلمون ؟!
هذا مما لا يليق تجاه كلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - و الصحابة والتابعين ، وأئمة الهدى الأوائل ممن هم أعلم منهم وأتقى لله . فإن الله سبحانه حين وصف نفسه بتلك الصفات: كاليدين ، والوجه ، والنفس ، والرضا ، والغضب ، والمجئ ، والاستواء ، والعلو ... إلخ من الصفات ، فقد سد باب شبهة التمثيل بقوله سبحانه :
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ سورة الشورى : الآية 11 ] .
فهل الذين أولوا تلك الصفات أعلم بالله من الله ؟! .
وهل هم أشد تنزيهاً لله من رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؟!.
وهل هم أعلم بمراد الله من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة من التابعين وتابعيهم وأئمة الهدى والسنة في القرون الفاضلة ؟! الذين أمرَّوا هذه الصفات ، وغيرها من أمورالغيب كما جاءت عن الله وعن رسول الله لفظاً ومعنى على مراد الله ورسوله ، من غير تشبيه ولا تعطيل ، ولا تأويل .
وقد ابتلى المتكلمون - ومنهم الأشاعرة - بسبب التأويل في صفات الله ، وبعض مسائل
العقيدة ، بأن أدخلوا في عقائدهم من المصطلحات والألفاظ والظنيات العقلية ما لا يليق القول به في حق الباري - سبحانه - لا نفياً ولا إثباتاً .
وأقل ما يقال فيه إنه كلام مبتدع لم يرد عن الله ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالكف عنه أسلم ، والخوض فيه قول على الله بلا علم ، مثل : الحدود ، والغايات ، والجهات ، والماهية ، والحركة ، والحيز ، والعرض ، والجوهر ، والحدوث ، والقدم .
ودعوى قطعية العقل ، وظنية النقل ... ومثل كلامهم في : التركيب والتبعيض ، وقولهم عن الباري - سبحانه - لا داخل العالم ولا خارجه ... إلخ ، ومما ابتدعوه من الكلام عن الله - تعالى - نفياً أو إثباتاً . وذلك انسياقاً مع التزامات المعتزلة والجهمية والفلاسفة العقلية الجدلية .
وكلامهم في هذه الأمور قد يشتمل على بعض الحق أحياناً ، لكن الله - تعالى - نهانا عنه ، وأقل ما يُـقال فيه أنه قول على الله بغير علم ، والله - تعالى - يقول :
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ سورة الإسراء ، الآية : 36 ] .
ويقول : { وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } [ سورة الأعراف ، الآية : 180 ] .
فأهل السنة لا يتكلمون في هذه الأمور - على سبيل التأصيل و الإقرار والتقرير - إلا من باب الرد وإلزام الحجة وبقدر الحاجة ، فمخالفة الأشاعرة لأهل السنة في هذا الباب ( الصفات ) ليست فرعية ، إذ هي متعلقة بأصل من أعظم أصول الدين ، وهو توحيد الصفات المتعلقة بالباري - سبحانه جل شأنه .
ومع ذلك يبقى الأشاعرة هم أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة ، لأن مقصدهم بالتأويل التنزيه ، لكن على غير هدى ولا اقتداء ، بل وقعوا فيما حذر منه أهل السنة من تحريم التأويل والجدل ، وضرب الأمثال لله - تعالى - ، ونحو ذلك مما ينافي وجوب التسليم بالنصوص الشرعية .
2 – ومن الأصول التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة ، تعويلهم على العقل والجدل وعلم الكلام ( النظر ) في صفات الله ، ومسائل القدر والغيب ، وتقديمهم العقل - ما يسمونه القواطع العقلية - على النقل ( الكتاب والسنة ) ، في أمور الغيب ومسائل الاعتقاد ، بل في مسائل صفات الله - تعالى - .
فالقاعدة عندهم - كما قررها الرازي والجويني وغيرهما - ( أن الدلائل النقلية لا تفيد
اليقين ) .
و( أن الدلائل النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية، والظن لا يُعارض القطع ) . - سبحان الله - !!
3 - ومن أصولهم المخالفة لأهل السنة : تفسيرهم التوحيد بما يحصره في توحيد الربوبية ، وغفلتهم عن توحيد الألوهية والعبادة لله - تعالى - وحده ، مع أنه التوحيد الذي أرسلت به الرسل ، قال الله - تعالى - { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُون ِ} [ سورة الأنبياء : الآية : 25 ] .
وهو التوحيد الذي من أجله خلق الله الخق ، قال - تعالى - : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ سورة الذاريات ، الآية : 56 ] .
لذلك نجد التلبس بالبدع في العبادات ، والوقوع في بعض الشركيات كثيرة فيمن ينتسبون إلى الأشاعرة المتأخرين ، لتساهلهم في توحيد العبادة .
وهذا لا يعني أن أهل السنة يستهينون بأمر توحيد الربوبية ... كلا والله ! ، لكنهم يبدأون بما بدأ الله به ، وما بدأ به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن توحيد الربوبية فطري ، لا يكاد ينكر بالكلية إلا نادراً ، وغالب الآيات التي جاءت في تقريره جاءت في سياق الإلزام بتوحيد العبادة والطاعة ، لذلك لا يعرف أن أمة من الأمم أنكرت توحيد الربوبية ، بل لا توجد طائفة أجمعت على هذا الأمر على الحقيقة ، ولو حصل هذا لذكره الله - تعالى - في قصص الأنبياء .
وبعكسه توحيد الألوهية ، فهو الذي ضلت فيه الأمم والفرق والطوائف حتى اليوم .
لذا نجد أن نظّـار الأشاعرة وأئمتهم يبدأون مؤلفاتهم في الاعتقاد بالعقليات والنظريات ، والتصديقـات والتصورات ، والمصطلحات الكلاميـة والفلسفـيـة ، وأن الدلائـل النقـليـــة ( السمعية )لا تفيد اليقين، وأن العقليات قطعية يقينية، ثم حدوث العالم وإثبات الصانع و
غير ذلك من الفلسفة وعلم الكلام ، وينتهون في ذلك إلى تقرير توحيد الربوبية ، و هذا خلاف ما درج عليه أهل السنة ، بل خلاف منهج القرآن الكريم ، فالآيات التي جاءت لتقرير توحيد الربوبية قليلة بإزاء الآيات التي جاءت لتقرير توحيد العبادة والطاعة ، ثم إن كثيراً من الآيات في توحيد الربوبية جاءت لتقرير عبادة الله وحده كما أسلفت .
4 - كما أنهم خالفوا أهل السنة في أصول أخرى، مثل: قولهم في القرآن وكلام الله ،
والإيمان ، والقدر ، والنبوات ، حيث تأثروا بالأصول الكلامية والفلسفية في نظرتهم لهذه الأمور ، فجاءت عقيدتهم فيها خليطاً من الحق والباطل بين أهل السنة والمعتزلة والفلاسفة ، لذا تجدهم كثيراً ما يستخدمون مصطلحات فلسفية وكلامية محتملة للحق والصواب ضدها ، وتختلف عن ألفاظ الكتاب والسنة .
وهكذا ... فإن هذه الأمور التي خالف الأشاعرة فيها أهل السنة ، وهي من أصول الاعتقاد وفروعه تقتضي من الباحث المنصف - عند التدقيق والتحقيق - أن يحكم كما هو رأي المحققين من أئمة السنة - بأن مذهب الأشاعرة في العقيدة ، مذهب مستقل في بعض الجوانب عن أهل السنة بأصوله ومناهجه ، وتصوراته واحكامه ، بخاصة في مسائل الصفات والإيمان والوحي والنبوات والقرآن وكلام الله ، والقدر .
فالأشاعرة في هذه المسائل وغيرها يوافقون أهل السنة في أمور ، ويخالفونهم في أخرى .
كما أنه لا يجوز أن نحمل السلف - أهل السنة والجماعة - مقولات الأشاعرة فيما ابتدعوه من علم الكلام والفلسفة ، وإنه من الإجحاف والتجني أن ننسب تلك المقولات للصحابة والتابعين وأئمة الهدى في القرون الفاضلة ، وهذه المقولات هي الغالبة في معتقدات في معتقدات الأشاعرة - كما أشرت في الفصل السابق .
أما أهل السنة ، فهم الذين لم يحيدوا ولم يزيدوا على مذهب السلف حتى اليوم ، فالذي ينتمي وينتسب لأهل السنة يلزمه أن يعتقد ما اعتقدوه في هذه الأصول ، وأن يتـّبع ما قالوه أو قرروه ، لا أن يقول ويعتقد حسب قواعده العقلية الكلامية والفلسفية ، ، ثم ينسب قوله وعقيدته إلى السلف ، كما فعل كثير من نظار الأشاعرة .
وإذا عرضنا الكثير من معتقدات الأشاعرة على ما أثر ونقل عن السلف في القرون الفاضلة وجدنا البون بينهما شاسعاً، ووجدنا أنهم- أي الأشاعرة – ابتدعوا وأحدثوا من المقولات ما كان ينهي عنه السلف من الكلام في الصفات والغيبيات بالظنون والمبتدعات الكلامية ، وقد عرضت شواهد ذلك .
ومن الحق والإنصاف أن نقول :
إن الأشاعرة - في العموم - هم أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة ، وأن منهم من هو إلى السنة أقرب من سائرهم ، وأن من الأشاعرة وممن انتسب إليهم : أئمة في الحديث ، وعلماء أجلاء في التفسير ، والفقه والعربية وغيرها ، ممن لهم قدرهم وفضلهم في العلم والدين ، بل إنه من الملاحظ أن من أئمة الحديث ممن انتسب أو ُنسب إلى الأشاعرة ; تجدهم من أهل السنة في جملة الاعتقاد ، وتحتاج نسبتهم إلى الأشاعرة إلى شيئ من التثبت والتحقيق ، من أمثال :
القاضي عياض ، وابن عساكر ، والنووي ، وابن حجر العسقلاني .
ونحوهم من أئمة السنة والحديث ، إذ هم إلى أهل الحديث أقرب منهم إلى المتكلمين .
فالعالم من الأشاعرة كلما زاد علمه في السنة والحديث والأثر وجدناه في الاعتقاد إلى أهل السنة أقرب - في الغالب - .
وأمر آخر تجدر الإشارة إليه هنا ، وفيه البرهان الأقوى على أن الأشاعرة جانبوا أهل السنة في بعض مسائل الاعتقاد الكبرى ، وعلى أنهم عند التحقيق والتروّي والتجرد يرجعون عن مقولاتهم إلى عقيدة أهل السنة ، وهذا البرهان : هو رجوع كثير من أئمتهم ونظارهم الكبار إلى عقيدة السلف ، والتسليم بها في آخر الأمر ، أو آخر العمر ، كما حصل من الإمام أبي الحسن الأشعـري نفسه ، حينما استقـر على عقيدة السلف في ( الإبانة ) ، وكما حصل من أبي المعالي الجويني ، وأبي محمد الجويني ، والرازي ، والشهرستاني ، والغزالي ، وابن العربي ، وغيرهم . فمنهم من رجع إلى قول أهل السنة، وترك علم الكلام ، وبين ذلك من خلال كتابة ما استقر عليه اعتقاده ، ومنهم من أعلن تسليمه لعقيدة أهل السنة على الإطلاق قبيل الوفاة ، ولم يتمكن من الكتابة .
وأختم قولي في هذا الفصل :
أنه ظهر لي أن أشاعرة اليوم ( المعاصرين ) بعدوا عن أهل السنة أكثر من أسلافهم لقلة فقههم بعقيدة السلف ، ولما تلبسوا به من الفلسفة وعلم الكلام والبدع والخرافات ، والانضواء - من الكثير منهم - تحت الطرق الصوفية ونحوها . هداهم الله ، وبصّرنا وإياهم بالحق والصراط المستقيم .
كما تجدر الإشارة إلى أن ما ذكرته من مفارقة الأشاعرة لأهل السنة في بعض أصول الاعتقاد لا يعني أني أرى تكفيرهم ولا تضليلهم ، بل لم أتعرض لهذا الأمر ، وأرى أنه جد خطير ، ويحتاج إلى تفصيل ليس هذا مقامه .
( 7 ) أيـن أهـل السنة ؟
عرضت في فصول سابقة إلى التعريف بأهل السنة ، وسمات عقيدتهم ، وخصائصها ، وذكرت أن الأشاعرة - ومذهبهم منتشر في غالب البلاد الإسلامية - ليسوا هم أهل السنة عند الإطلاق ، بعد ذلك يحق للمرء أن يتساءل :
أين أهل السنة ؟ وكيف نعرفهم بين المسلمين اليوم ؟
فأقول بإيجاز ، وحسب ما يظهر لي :
إن أهل السنة قد وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وعينهم تعييناً يجعلهم كالشمس لمن وفقه الله وسلم من الهوى والعصبية والتقليد الأعمى ، فمن صفاتهم المأثورة :
1- أنهم الذين على هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مظهراً ومخبراً ، عقيدة وسلوكاً وعبادة ، وهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيّنته السنة أوضح بيان .
فهم - أي أهل السنة - أعلام بارزون ظاهرون جيلاً بعد جيل منذ عصر الصحابة إلى يومنا ، معروفون بالاتباع والاقتداء والاهتداء .
2- وأنهم المتمسكون بعقيدة السلف ، الصحابة والتابعون ، وأئمة الهدى في القرون الثلاثة الفاضلة ، وعقيدة السلف مأثورة معروفة مسطرة - بحمد الله - من خلال ما صنفه أئمة الهدى كالأمام أحمد ، والبخاري ، وابن أبي عاصم ، والدارمي، وعبدالله بن أحمد ، وابن خزيمة ، وابن بطة ، وابن منده ، والخلال ، والأشعري بعد إبانته ، وإسماعيل الصابوني ، والطحاوي ، وابن تيمية ، وغيرهم كثيرون جداً ، يعرفهم أهل العلم وكل من أراد التعرف عليهم .
3 - سلامتهم من التلبس بالبدع والشركيات والطرق ، فأهل السنة أيّـاً كانوا لا تراهم يتمسحون بالقبور والأحجار والآثار والصخور ، ولا يدعون غير الله ، ولا يستغيثون بالأموات ، ولا يقيمون المشاهد والقباب على القبور ، ولا يقيمون الموالد والاحتفالات البدعية ، وقل أن تجد منهم من ينضوي تحت الطرق الصوفية ، إلا عن جهل وغفلة أو تقليد على غير بصيرة كبعض العوام .
4 - تمسكهم بشعائر الدين ، الظاهرة والباطنة ، كما أمر الله وبيّن رسوله - صلى الله
عليه وسلم- ، فهم يقيمون الفرائض والسنن ، ويأمرون بها ، ويتركون الآثام والمنكرات والمحرمات والبدع ، وينهون عنها .
5 – أنهم ظاهرون في مجتمعاتهم بالصدع بالحق ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومحاربة البدع ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وهذه الصفة قد تختلف من بلد إلى آخر ، فإن من بلاد المسلمين ما لا يستطيع المسلمون فيه إظهار شعائرهم ، ولا إعلان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وفي العموم : فأهل السنة - والله أعلم - لا يحصرهم مكان ولا زمان ، فهم - بحمد الله - يوجدون في أكثر من مكان وأكثر من بلد ، يقلون في بلد ، ويكثرون في آخر ، فهم في أرض الله الواسعة منتشرون بحسب حالهم .
ولو تأملت حال المسلمين اليوم، لوجدت أهل السنة منهم متميزين في كل بحسب حاله ، كثرة أو قلة ، قوة أو ضعفاً ، فقد تجدهم في مصر والسودان أكثر ما يكونون بين أنصار السنة المحمدية ، وفي غيرهم قليل ، وفي الشام في أهل الحديث والأثر أكثر من غيرهم ، وفي الهند والباكستان وأفغانستان يكثرون في أهل الحديث والجماعات والجمعيات السلفية أكثر من غيرها .
وقد أشرت من قبل أن من أبرز سمات أهل السنة في البلاد الني لا تكثر فيها البدع والطرق الصوفية وصفهم بـ ( الوهابية ) نسبة لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، أو بـ ( الحنابلة ) نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل .
ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هي المثال الحي الواضح لأهل السنة والجماعة معتقداً وسلوكاً ، وقد تحقق بها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة " ، فهي حتى الآن ظاهرة بحمد الله .
هذا مع العلم أن عامة المسلمين الذين يقيمون شعائر الدين وهم سالمون من الشركيات ، إنما هم على الفطرة ، ويدخلون في سواد الأمة وأهل السنة في أي بلد ومكان كانوا .
.. وأهل السنة ( والله أعلم ) في آخر الزمان ليسوا أكثرية ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بأنهم طائفة ، وأنهم الغرباء ، وأنهم عصابة ، وأنهم فرقة واحدة من ثلاث وسبعين فرقة .
وهذا يسقط دعوى بعـض الأشاعـرة والماتريدية المعاصرين ، بأنهم أهل السنـة ، لأنهـم
الأكثرون في بلاد المسلمين ، فالأكثرية ليست دليلاً كافياً على الصواب ، إنما العبرة باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والتمسك بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، واتباع هدي الصحابة والتابعين وأئمة الهدى الأعلام في العصور الثلاثة الفاضلة ، والذين اتبعوهم واقتفوا آثارهم ، ولم يغيروا ولم يبدلوا إلى يوم الدين مهما قـلّوا .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن الأكثرية من المسلمين اليوم هم من العامة الذين يغلب عليهم الجهل ، وعدم الإلمام بتفصيلات العقائد ، وهؤلاء جمهورهم على الفطرة ، والأصل فيهم البرآءة وسلامة الاعتقاد ، ومن كان هذا وصفه فهو داخل في سواد المسلمين أهل السنة ، ما لم تجتلهم شياطين البدع والخرافات ، وشياطين الفرق والطرق والأهواء ودعاة الضلالة . والله أعلم